فصل: تفسير الآية رقم (158):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (153- 154):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)}.
التفسير:
الطاعات والاستقامة عليها، لها أعباؤها التي تحتاج إلى قوة احتمال ومجاهدة، ولكى يقوى الإنسان على حمل هذه الأعباء، كان لابد له من زاد يعينه، ويمسك عليه عزمه ومضاءه.
والصبر والصلاة هما خير ما يتزود الإنسان به، لكى يجد من نفسه القدرة على الوفاء ببعض حق اللّه عليه.
والصبر قوة معنوية لا يحصل عليها الإنسان إلا بعد رياضة ومعاناة، وتلك الرياضة وهذه المعاناة يحتاجان إلى الصبر، والصبر يحتاج إليهما.
وإذن فالدعوة إلى الصبر دعوة إلى التمرس بالطاعات أولا، والتعود على أداء الواجبات، فذلك هو الذي يخلق في الإنسان خلق الصبر.. وفى هذا يقول اللّه سبحانه للنبى الكريم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها}.
فأداء الصلاة والمداومة عليها يحتاج إلى الصبر والمصابرة، وبذلك توضع الخمائر الأولى للصبر في كيان الإنسان، ومع الزمن ينمو الصبر، ويصبح قوة عاملة في الإنسان.
هذا ويذهب بعض المفسّرين إلى أن معنى الصّبر في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} هو الصوم إذ كان الصوم في صميمه تجربة حية مباشرة لغرس بذرة الصبر وإرواء نبتته، ولهذا سمّى رمضان شهر الصبر.
ونحن نأخذ بهذا المعنى للصبر، ونرى في التعبير القرآنى عن الصوم بالصبر إعجازا من إعجاز القرآن، حيث كان الصبر والصوم متلازمين، لا وجود لأحدهما بغير الآخر، فلا صوم إلا مع الصبر، ولا صبر إلا ومعه صوم وحرمان.
صوم عن مكروه، وحرمان من محبوب!.
ولأن الصوم لا يكون إلا ومن ورائه الصبر، كان التعبير عنه بالصبر أولى من التعبير عن الصبر بالصوم، إذ قد يكون الصبر ولا صوم، ولكن لا يكون الصوم بغير الصبر!.
والجهاد في سبيل اللّه، والانتظام في صفوف المجاهدين، والإقدام على ملاقاة الأعداء، والتعرض لمواجهة الموت- ذلك كله يحتاج إلى رصيد عظيم من الصبر والإيمان.. ولهذا جاءت دعوة اللّه إلى الجهاد في سبيل اللّه، بعد دعوته إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، على المحن والشدائد.
والجهاد في سبيل اللّه، محفوف دائما بالبذل والتضحية.. بذل المال، وتضحية النفس، والأهل والولد.
والابتلاء بفقد الأحباب- ولو كان في سبيل اللّه- شاق على النفس، أليم وقعه على الأحياء، ولهذا لم يكن الفيء إلى الصبر والصلاة- مهما كان شأنهما- بالذي يقهر نوازع الحزن، ويذهب بلواعج الأسى في هذا المقام.
ولهذا جاءت تلك المواساة الكريمة الرحيمة من رب العالمين، لتمسح بيد الرحمة على ما بقلوب المبتلين بفقد أحبابهم، والمصابين باستشهاد أهليهم، من آلام وأحزان، فهؤلاء الشهداء- كما يخبر رب العالمين- ليسوا بالأموات، وإنما هم أحياء. في أطيب منزل، وعند أرحب جناب: {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [179- 170: آل عمران] إن لهؤلاء الشهداء شأنا آخر عند اللّه غير شأن غيرهم ممن ينقلون من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة.. فهم أحياء عند ربّهم وإن كنا لا نشعر بحياتهم، هم في عالم ونحن في عالم، وبين العالمين حجاز.. وحسب المؤمن أن يتلقّى هذا الخبر عن اللّه تعالى فيعلم، عن يقين أن الشهداء أحياء، يلبسون صورة للحياة أكرم وأبقى من الحياة التي كانوا عليها.. وهم في نعيم لا يقاس به أي نعيم ينعم به المنعمون في هذه الدنيا.

.تفسير الآيات (155- 157):

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}.
التفسير:
الناس جميعا مبتلون في هذه الحياة- سواء أكانوا أفرادا أو جماعات أو أمما- بشيء من الخوف والجوع- يختلف قلة وكثرة- وبنقص في الأموال والأنفس والثمرات.. فليس أحد في هذه الدنيا بمأمن أبدا من أن تنزل به هذه النوازل، متفرقة أو مجتمعة.
والجزع في هذه المواطن هو الذي يثقّل المصيبة، ويولّد منها مصائب، فيضاعف معها البلاء، ويعظم الألم، ويطبق اليأس، ويغلق كل باب للأمل والرجاء!.
أما الذي يلقى أحداث الحياة ومصائبها بالصبر، ويواجهها بالتسليم والرضا، عن يقين وإيمان بأن ما وقع إنما هو بقضاء اللّه وقدره- فإن ذلك يهوّن عليه من وقع المصائب وإن عظمت، ويمدّه بمعين عظيم من الصبر والاحتمال، ويفتح له بابا واسعا من الأمل والرجاء فيما هو خير عند اللّه وأبقى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} فحين يذكر المؤمن أنه- ذاتا ومالا وأهلا وولدا- ملك للّه، لا يملك مثقال ذرة مما في ملك اللّه، وأن مصائر الأمور كلها إلى اللّه، ومردّها جميعا إليه- حين يذكر المؤمن هذا لا يأسى على فائت، ولا يحزن على مفقود، وتلك هي أولى بشريات المؤمنين في هذه الدنيا، لا ينزل الحزن ساحتهم، ولا يرهق الهمّ والكرب قلوبهم: {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.

.تفسير الآية رقم (158):

{إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}.
التفسير:
الصفا والمروة جبلان صغيران قرب مكة، وهما منسكان من مناسك الحج، والسعى فيهما واجب في الحج والعمرة عند بعض المذاهب، ونافلة عند البعض الآخر.
وفى قوله تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} ما يشعر بأن الأصل في الطواف بهما هو الحظر، وأن رفع الحظر والجناح وارد استثناء على هذا الحظر، وهذا يعنى أن هذا الطواف تركه أبرّ من فعله.
ولكن كيف يكونان- الصفا والمروة- من شعائر اللّه، ثم يكون الطواف بهما أو السعى بينهما داخلا في باب الحرج؟.
هذا ما دعا أكثر المفسرين إلى البحث عن وجه يوفّقون به بين هذين الأمرين! وقد كثرت في هذا المقولات واختلفت المرويات، كما هو الشأن دائما في مثل هذا الموقف!.
ومما قيل هنا: إنه كان هناك صنمان في الجاهلية، أحدهما اسمه أساف، على الصّفا، والآخر اسمه نائلة، على المروة، وأن العرب في الجاهلية كانوا يترددون عليهما، ويطوفون بهما، فلما جاء الإسلام، ودخل النبيّ- صلى اللّه عليه وسلم- مكة معتمرا وأراد أن يسعى بين الصفا والمروة، وقع في بعض نفوس المسلمين شيء من الكراهية، فنزل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} أي حيث أن الصفا والمروة من شعائر اللّه ومناسك عبادته، ولأن السعى بينهما منسك من مناسك الحج، يجب أو أن يندب أداؤه عند الحج أو العمرة، فليسع الحاجّ أو المعتمر بينهما، ولا عليه من بأس أو جناح من وجود هذين الوثنين! فرفع الحرج هو عن السعى مع وجود الصنمين، لا عن ذات السعى.
ولكن هذا التعليل إن ساغ في تلك الحال العارضة يوم نزول الآية- كما يقال- فإنه بعد ذلك يجعل الآية معلقة بوقت نزولها، منقطعة عن الحياة بعد هذا الوقت، فإن نظر إليها ناظر اليوم على أنها حكم من أحكام الحج، وجد فيها هذا الحرج قائما، يجده في قلبه من يطوف أو يسعى بين الصفا والمروة!!.
إن كلمات اللّه فوق هذا النظر المتهافت الكليل، وإن آيات اللّه لا يقطعها الحادث العارض لنزولها، عن أن تظل عاملة في الحياة، ومصدر هدى ونور للناس إلى يوم الدين.
وبنظرة أكثر عمقا وأبعد مدى، نرى في تلك الآية- بما أرانا اللّه- ما يطمئن إليه القلب، وتستريح له النفس، وينشرح به الصدر.. والحمد للّه رب العالمين.
ففى قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} حكم قاطع بأن هذين المكانين من أماكن اللّه، التي اختصها بأن يتعبّد له فيها العابدون، ويتقرب إليه عندها المتقربون!
وقد جعل اللّه السعى بينهما منسكا من مناسك الحج، وفعلا من الأفعال التي تتم بها هذه الفريضة! وليس يعقل بحال أن يلمّ بمن يؤدى هذا المنسك- حاجّا أو متعمرا- غير نفحات الرحمة والرضوان.
وإذن فينبغى أن يكون معنى قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} كاشفا عن هذه الحقيقة، وعن نفحات الرضا والرحمة التي تحفّ بمن يطّوّف بهما! وننظر فنرى أن كلمة {يطّوف} بالتشديد غير كلمة يطوف بالتخفيف، ومعنى هذا أنها تعنى كثرة الطواف، لا مجرد الطواف! ومن جهة أخرى، فإن الطواف معناه الدوران، ومنه الطواف حول الكعبة، ومنه الطائفة وهى الجماعة المتحلّقة، وعلى هذا يكون المراد بالتطوف بالصفا والمروة: الدوران حولهما لا السعى بينهما.. والطواف بهما أمكن وأشق من السعى.
وعلى هذا يكون معنى التطوف: إما الإكثار مع السعى بين الصفا والمروة، أو التطوف حولهما مع السعى بينهما.
وعلى هذا أيضا، يكون رفع الحرج والجناح لا عن السعى، بل عن الاستزادة من السعى، أو الجمع بين الطواف والسعى، حيث يظن أن أداء الشعيرة موقوف به عند السعى بعدد من المرات، لا يتجاوزه الحاج أو المعتمر، أو أن الجمع بين الطواف والسعى غير مستحب، فكان رفع الحرج بإطلاق قيد العدد في السعى، إلى ما يمكن أن يحتمله الجهد والطاقة، أو بالجمع بين السعى والطواف- كان الرفع للحرج إغراء بالإكثار من السعى، أو بالسعي الذي يجعل الطواف بالصفا والمروة جزءا منه.. فذلك زيادة في العمل في باب الخير، يزداد به الثواب، ويتضاعف به الجزاء، ولهذا جاء قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ} عقب قوله سبحانه: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} بيانا لهذه الاستزادة من التطوف التي هي زيادة في خير، ومضاعفة لأجر، فمن استزاد خيرا فهو خير له.
والفاصلة التي تختم بها الآية: {فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ} إقرار لهذا التطوع بالخير، الذي يجيء عن تبرع بما هو فوق المطلوب، وتقبّل له بالحمد والرضا من رب العالمين: {فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ}.
ومثل هذا ما جاء في قوله تعالى في صوم رمضان: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
فالذين يجدون جهدا أو مشقّة في صوم رمضان، مباح لهم أن يفطروا وأن يطعموا مسكينا عن كل يوم، وإطعام المسكين هو القدر المطلوب الذي يجزى كفدية عن إفطار يوم، لمن يفطرون رمضان حين يجدون مشقة في صومه: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} أي من زاد عن المطلوب، فأطعم مسكينين أو ثلاثة، أو عشرة، أو مائة، أو أكثر، فذلك زيادة في عمل الخير، وعلى قدر هذه الزيادة يزاد في الثواب.
ومثل آية الطواف بالصفا والمروة ما جاء في قوله تعالى فيما هو من أعمال الحج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}.
فبالإفاضة من عرفات تتم أعمال الحج، ولكن الحاج لا يزال في تلك المواطن المقدسة، ونفسه معلقة بها، وأشواقه نازعة إليها. وعزيز عليه أن تنقطع الصلة بينه وبينها.. إلا أنه من جهة أخرى يرى أنه أدّى الفريضة وقضى مناسكها، وربما لو أنى عملا آخر ولو كان برا لم يقع عند اللّه موقع القبول، لأنه جاء على غير شرع اللّه، فكان قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} إذنا بالدخول في باب جديد من أبواب الخير، فيه طلب المزيد من فضل اللّه: {فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ}.

.تفسير الآيات (159- 160):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}.
التفسير:
مناسبة هذه الآية للآية التي قبلها- على ما يبدو في ظاهر الأمر من بعد الصلة بينهما- هو أن اللّه سبحانه وتعالى يرسل رسله بالبينات والهدى ليكشفوا للناس طريقهم إلى اللّه، وما يتقربون به إليه، من عبادات ومعاملات، وقد بينت الآية السابقة منسكا من مناسك الحج، وفتحت للناس بابا من أبواب التقرب والزّلفى إلى اللّه.
وآيات اللّه هذه هي ميراث المؤمنين عن أنبيائه، والعلماء هم الأمناء على هذا الميراث الكريم.. وقد أخذ اللّه عليهم الميثاق أن يبينوه للناس ولا يكتموا شيئا منه.. كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}.
وإذا كان أهل الكتاب- وخاصة علماءهم- قد نقضوا هذا الميثاق، فكتموا ما أنزل اللّه عليهم. وشوهوا معالم الحق فيه، فكان من المناسب أن يذكّروا في تلك الحال بما هم متلبسون به، وأن يحذّروا، حتى ينتزعوا أنفسهم مما هم فيه، من خلال، إن كان لهم إلى أنفسهم عودة وإلى استنقاذها رغبة! والضمير في قوله تعالى {مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ} يعود إلى الاسم الموصول في قوله تعالى {ما أَنْزَلْنا} أي من بعد ما بينا هذا المنزل، وجعلناه في كتاب، وهو التوراة والإنجيل.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} وعيد شديد لهؤلاء الذين يكتمون ما يعرفون من الحق، الذي بيّنه اللّه لهم في كتبه، واللعنة معناها المقت والطرد من رحمة اللّه.
وأما قوله سبحانه: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} فهو تشنيع عليهم، وتغليظ لجرمهم، وفضح لهم بعرضهم في وجه كل مسبّة يتسابّ بها الناس، ورميهم بكل سوء يرمى به الناس في دنيا الناس.. هكذا بكل لسان، وفى كل مكان وزمان!! وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} هو يد رحيمة منعمة، يمدها اللّه سبحانه لهؤلاء الذين غرقت سفينتهم، وتدافعت بهم أمواج الضلال والفتنة، لتلقى بهم إلى حيث البلاء المبين، والعذاب الأليم، وتلك فرصتهم إن اهتبلوها ومدوا أيديهم إلى اللّه، وأخلصوا له القول والعمل، كان في ذلك خلاصهم ونجاتهم، ففى رحمة اللّه متسع لهم، فعلى هؤلاء الذين مكروا بكتاب اللّه ان يتوبوا، وأن يعدلوا عن طريقهم المعوج الذين ركبوه، وأن يصلحوا ما أفسدوا وما أدخلوا على كتاب اللّه من تحريف وتبديل، وأن يبينوا ما في كتاب اللّه من حق، في شأن النبي ورسالته.. هنالك يستقيم طريقهم، وتقبل توبتهم: {فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
وانظر في قوله تعالى: {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} كم تجد في قول الحق جل وعلا: {أَنَا} من معطيات الأمل والرجاء لمن يلفتهم اللّه إليه، ويتجلّى عليهم بذاته؟ وكم تجد في واو العطف في قوله سبحانه: {وَأَنَا} من قوى الجذب إلى اللّه لهؤلاء الضالين الظالمين؟ {فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} فهم الراجعون إلىّ، الطامعون في رحمتى {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
الذي يقبل التوبة عن عباده، ويرحمهم.